7- تربية القادة لا العبيد:
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا:
هل نحن نعنى بتعليم الناس وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون، ويبتكرون؟
أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة، وربما دون فهم لمضمون القول؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضاً؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من المعلومات!
وهو الآخر - لِمَا غرسنا لديه - يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق ولا شك؛ لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف ثم ينساها بعد ذلك أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه.
ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة.
وقل مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها!!
فهل نحن نربي الناس على أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين؟ أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه كبراؤهم؟
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر؛ ففي تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات مجردة.
وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية:
- ففي ميدان العلم واجهت أصحابه قضايا طارئة مستجدة؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى، فاستثمروا نتاج التربية العلمية التي تلقوها، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون، وجمع القرآن، وجلد الشارب، والخراج وغيرها.
- وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما وراء النهر، وبلاد المغرب حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن منهم من دفن تحت أسوار القسطنطينية.
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا.
فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أين هم من هذه التربية النبوية؟
8. التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي.
- قال ابن مسعود رضي الله عنه: (علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه).
- ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه:أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومن ذلك حديث معاذ رضي الله عنه كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال:«يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟..».
- وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما زوّجه أبوه امرأة فكان يتعاهدها، فتقول له:نِعْمَ الرجل لم يكشف لنا كنفاً ولم يطأ لنا فراشاً -تشير إلى اعتزاله- فاشتكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه فكان معه الحوار الطويل حول الصيام وختم القرآن وقيام الليل.
وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً، بينما نجد أنه في مواقف أخر يوجه توجيهاً عاماً، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه؛وهي أشهر من أن تورد وتحصر.
وها هنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه وناقشه منفرداً به، بينما نجده في موقف آخر شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس؛ فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها وقالوا ما قالوا، صعد المنبر وخطب في الأمر:
- عن أنس رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم:لا أتزوج النساء، وقال بعضهم:لا آكل اللحم، وقال بعضهم:لا أنام على فراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني».
- ومثل ذلك في قصة الذي قال:هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال:هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي؛ فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده؛ لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر»ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: «ألا هل بلغت»ثلاثاً.
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها؛ لأنها ربما كانت مشكلات فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه.
وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام الجميع.
والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9. تعويد المتربي على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء!!
فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه.. إلخ، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات!!
وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسؤولية:في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية: أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم،
وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة،
وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية،
وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب؛ فهو يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو فردين:
- فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم».
- ومن ذلك أيضاً استشارته لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك..
وفي الاستشارة تعويد وتربية، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية
ولو عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم..
- فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمّر أبا بكر على الحج..
- بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود غيرهم، فأمّر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة، ثم أمّره على جيش يغزو الروم، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه...
وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف..
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن الله جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.
وصلى الله وسلم وبارك على (إمام التربية) نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله ورعاه